سورة الأحزاب - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
الأسوة: التأسى، والاقتداء.
والأسوة في الرسول، هى التأسى به في موقفه من أمر ربه، وامتثاله له، وجهاده في سبيل اللّه، وقيامه على رأس المجاهدين.
وفي وصف الأسوة بأنها أسوة حسنة، إشارة إلى أن هناك أسوة سيئة، يقوم على رأسها كبير من كبار المنافقين، يدعو إلى النكوص على الأعقاب والفرار من مواجهة الأحزاب.
والدعوة هنا عامة للمؤمنين أن يتأسوا برسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأن يكونوا من ورائه جندا مجاهدين في سبيل اللّه، فذلك هو طريق الخير، والفوز، لا ييسره اللّه، إلا لمن كان يؤمن باللّه ويرجوا ما عنده، من جزاء في الدنيا والآخرة، وكان ذكر اللّه دائما ملء قلبه، حتى يجد من هذا الذكر ما يستحضر به عظمة اللّه، وفضله، وإحسانه، فيصبر على البلاء، ويستخف بالحياة الدنيا في سبيل رضوان اللّه في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً}.
هذه صورة من صور التأسّى برسول اللّه، يراها الذي ينظر إلى المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.. فهؤلاء المؤمنون حين رأوا الأحزاب لم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم ترهبهم كثرة العدوّ، ولم يفزعهم الموت المطلّ عليهم من كل مكان.. فالموت في هذا الموطن هو أمنيتهم التي كانوا يتمنونها على اللّه، ويقدمونها ثمنا لإعزاز دين اللّه، وإعلاء كلمة اللّه.. ولهذا فإنهم حين رأوا الأحزاب، رأوا فيهم تحقيق ما وعدهم اللّه ورسوله به، من الابتلاء والبلاء على طريق الجهاد في سبيل اللّه.. فالمؤمنون دائما على طريق الجهاد، وعلى توقّع الصّدام مع العدوّ، الذي يتربص بهم وبدينهم، الدوائر وإن المؤمن في مرابطة مستمرة، لحماية دين اللّه، ولدفع ما يرمى به من سوء، وردّ ما يراد به من كيد.
قوله تعالى: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يمكن أن يكون من كلام المؤمنين، معطوفا على مقول قولهم: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
ويمكن- وهو الأولى عندنا- أن يكون تعقيبا على قولهم، من اللّه سبحانه وتعالى، أو بلسان الوجود الّذى إذا سمع قولهم: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}!.
نطق بلسان واحد: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
وقوله تعالى: {وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً} فاعل الفعل {زادهم}.
يدلّ عليه الفعل {رأى} أي ما زادهم ما رأوه من الأحزاب وكثرة عددهم وعدتهم، إلا إيمانا باللّه، وتصديقا لوعده، وتسليما بما يقضى به اللّه بينهم وبين عدوّهم.
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
أي من المؤمنين الذين سلموا من النفاق، رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.. إذ ليس كلّ المؤمنين على درجة واحدة في إيمانهم.. بل هم درجات في الإيمان، كما أنهم درجات عند اللّه.
وحرف الجرّ {من} هنا للتبعيض.. أي من بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.
وفي قوله تعالى: {رجال} إشارة إلى أنهم أناس قد كملت رجولتهم، وسلمت لهم إنسانيتهم.. فكانوا رجالا حقّا، لم ينتقص من إنسانيتهم شىء.. فالكفر، والشرك، والنفاق، وضعف الإيمان، كلّها أمراض خبيثة، تغتال إنسانيّة الإنسان، وتفقده معنى الرجولة فيه.. فالرجل كلّ الرجل، هو من تحرّر عقله من الضلال، وصفت روحه من الكدر، وسلم قلبه من الزيغ.. ثم لا عليه بعد هذا ألا يمسك بيده شيء من جمال الصورة، أو وفرة المال، أو قوة السلطان.
وفي تنكير {رجال} معنى التفخيم، والتعظيم، كما يقول اللّه تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} [36: 37 النور] وكما يقول سبحانه:
{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [108 التوبة].
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ}: النحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضى فلان نحبه: أي وفي بنذره، والمراد به انقضاء الأجل.
أي من هؤلاء الرجال من مات، وهو على إيمانه الوثيق باللّه، وفي موقف الجهاد في سبيل اللّه، قد وفى بما نذره اللّه، وعاهد اللّه عليه.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي من ينتظر قضاء اللّه فيه، موتا، أو استشهادا في ميدان القتال، فهو على ترقب وانتظار لليوم الذي تتاح له فيه الفرصة للوفاء بنذره وعهده.
وفي قوله تعالى: {يَنْتَظِرُ} إشارة إلى أن المؤمن الصادق الإيمان، ينتظر لقاء ربّه، وهو في شوق إلى هذا اللقاء، يعدّ له اللحظات، ويستطيل أيام الحياة الدنيا، في طريقه إلى ربه.. شأن من ينتظر أمرا محبوبا هو على موعد معه.
وقوله تعالى: {وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
إشارة إلى أن إيمانهم باللّه، ويقينهم بلقائه لم يزايل مكانه من قلوبهم لحظة، ولم ينحرف عن موضعه أي انحراف.. فهم على حال واحدة من أمر ربّهم، ومن الثقة بما وعدهم اللّه على يد رسوله.. على حين أن كثيرا ممن كان معهم ممن أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قد بدّلوا مواقفهم، وكثرت تحركاتهم بين الإيمان والكفر.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
اللام في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} هى لام العاقبة لقوله تعالى: {وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
أي أنهم فعلوا ذلك ليجزيهم اللّه بصدقهم في إيمانهم، وبوفائهم بعهودهم.. وقد أقيم الظاهر مقام المضمر فجاء النظم القرآنى {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} بدلا من: {ليجزيهم اللّه بصدقهم،} وذلك للتنويه بهم، ولإلباسهم هذه الصفة التي حققوها في أنفسهم وهى الصدق، فكانوا الصادقين حقا.. ولم يذكر القرآن ما يجزيهم اللّه به، إشارة إلى أنه جزاء معروف، وهو الإحسان.. فما يجزى المحسنون إلا إحسانا، كما يقول سبحانه: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ..}.
فهو جزاء لا يحتاج إلى بيان.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
هو الجزاء الذي يلقاه أولئك الذين بدّلوا موقفهم من الإسلام، وهم المنافقون، الذين انحرفوا عن الطريق الذي كانوا عليه.
فالمؤمنون الذين لم يبدّلوا موقفهم، ولم يحيدوا عن طريقهم الذي استقاموا عليه- هؤلاء لهم من جزاء إيمانهم وإحسانهم، ما هم أهل له، من الإحسان والرضوان.. والذين بدّلوا، ونافقوا، ولم يصدقوا في إيمانهم باللّه- هؤلاء إما أن يعذّبهم اللّه، إذا هم مضوا على نفاقهم، ولم تدركهم رحمة اللّه، فتخرجهم من هذا النفاق، وتعيدهم إلى الإيمان، وإما أن تنالهم رحمة اللّه، فيتوبوا من قريب، ويدخلوا في المؤمنين الصادقين.
وفي قيد العذاب بالمشيئة الإلهية، إشارة إلى أن مشيئة اللّه في هؤلاء المنافقين الذين كتب عليهم الشقاء والعذاب، هى التي أمسكت بهم على طريق النفاق، وخلّت بينهم وبين ما في قلوبهم من مرض، وأن رحمة اللّه هى التي أدركت بعض هؤلاء المنافقين، وعدلت بهم عن طريق النفاق.
وإذن فليطلب المنافق من هؤلاء المنافقين السلامة لنفسه، وليسع سعيه ليكون ممن يتوب اللّه عليهم.. وليعلم أن في هؤلاء المنافقين من هو من أهل العذاب، وأن عليه أن يحذر ما استطاع أن يكون منهم.
ثم ليعلم قبل هذا كله، أن الأمر للّه سبحانه وتعالى، من قبل ومن بعد، وأن المطلوب منه، هو أن يعمل على سلامة نفسه، وأن يطلب الخير لها.
وليس له أن يعلم ما اللّه سبحانه وتعالى قاض فيه! فذلك للّه وحده، لا شريك له فيه.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} إطماع في رحمة اللّه، وفي مغفرته للعصاة والمذنبين، أيّا كان ما هم فيه من ضلال.. فرحمة اللّه واسعة، ومغفرته عامة، لمن طمع في رحمته ومغفرته، وعمل على مصالحة ربّه، والتوب إليه.
قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً}.
الواو للاستئناف، ومتابعة عرض الأحداث لقصة الأحزاب، بعد هذا الاعتراض بتلك التعقيبات على ما ذكر من أحداثها.
فقد ردّ اللّه الأحزاب {بغيظهم} فهذا الغيظ هو محصّلهم من هذه الغزوة التي كانوا يمنّون أنفسهم فيها بالنصر والغنيمة.. فبدلا من أن يعودوا إلى أهليهم محمّلين بالغنائم، وبأهازيج الفرح والزهو، عادوا يحملون الغيظ والكمد، ويتلفعون بالخزي والذلة.
وقوله تعالى: {لَمْ يَنالُوا خَيْراً} تأكيد لما أصاب الأحزاب من خزى وكمد، وأنه لم يكن لهم في كيدهم هذا الذي كادوا، أىّ وجه من وجوه النفع، بل كان شرّا خالصا، وبلاء محضا.
وقوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ}.
هو إظهار للمنّة التي امتنّ اللّه بها على المؤمنين يدفع هذا المكروه الذي نزل بساحتهم، وأوشك أن يشتمل عليهم، دون أن يكون منهم قتال.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} بيان لما اللّه سبحانه وتعالى من سلطان قاهر، وقوة غالبة.. فلا يملك أحد مع سلطان اللّه سلطان، ولا مع قوة اللّه قوة.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}.
فى الآية السابقة بيّن اللّه تعالى، ما نزل بفريق من الأحزاب، وهم {الكافرون}.
وهم مشركو قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب.
وفي هذه الآية.. بيان لما أخذ اللّه به الفريق الآخر من الأحزاب، وهم يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، الذين ظاهروا المشركين، أي كانوا ظهرا لهم في هذا الكيد الذي أرادوه بالنبيّ والمسلمين.
فهؤلاء اليهود، أنزلهم اللّه من صياصيهم، وأزالهم من أماكنهم التي تحصنوا فيها {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي ملأ قلوبهم فزعا ورعبا، وأراهم أنهم قد أصبحوا في يد النبىّ والمسلمين بعد أن انقلب المشركون مدحورين، مذمومين.
والصياصي: الحصون التي كان يتحصن فيها اليهود، بالمدينة.. وكانت حصونا حصينة، يعيش فيها هؤلاء القوم، ويجدون في ظلها الحماية من كلّ عدو يريدهم، قبل الإسلام، وفي الإسلام.. وهى جمع صيصية.. وبها تسمى قرون الظباء والبقر.. لأنها حصونها التي تدفع بها العدو عنها.
وقوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} هو بيان لما انتهى إليه أمر اليهود في هذه الغزوة.. فقد مكن اللّه سبحانه وتعالى النبىّ والمسلمين منهم، فنزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.
ذلك أنه بعد أن زايل المشركون الخندق، ورفع الحصار عن المدينة، وأمن المسلمون شرّهم، عاد النبىّ والمسلمون معه إلى دورهم، ثم إنهم ما كادوا يضعون أسلحتهم، حتى جاء جبريل إلى النبىّ يؤذن بحرب اليهود، الذين لم تعد مجاورتهم للمسلمين في المدينة مأمونة العاقبة، بعد أن صرح الشرّ منهم، وأصبحوا جبهة من الجبهات التي أعلنت الحرب سافرة على الإسلام والمسلمين.
إنهم الآن وقد سفرت عداوتهم للمسلمين لم يكن بدّ من أن يخرجوا من المدينة، أو يخرج المسلمون منها.. إذ لا يستقيم للمسلمين بعد هذا الأمر، وهذا العدوّ يعيش معهم، يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويكشف مواطن الضعف التي يدخل عليهم العدو منها.
وأذّن مؤذن النبىّ في المسلمين، بعد أن تلقّى أمر ربه، ألا يصلّى المسلمون العصر- أي عصر هذا اليوم- إلا في بنى قريظة.. فسار المسلمون إلى حيث كان يتحصن بنو قريظة في حصونهم من المدينة. وكانت صلاة العصر قد دخل وقتها.. فكان المسلمون على رأى مختلف في أداء الفريضة في وقتها حيث وجبت أو الانتظار بوقتها حتى يبلغوا بنى قريظة.. وكان ذلك موضع اجتهاد منهم.. فرأى بعضهم أن يمتثل أمر النبىّ من غير تأويل، وألا يصلّى العصر إلا في بنى قريظة، ولو تأخر الوقت إلى العشاء.
ورأى بعض آخر، أن يصلّى العصر، حين وجب وقتها، وقبل أن يخرج هذا الوقت، ودلّهم على هذا الرأى أن النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم لم يرد بهذا الأمر إلا المبادرة والإسراع إلى حيث أمرهم، وأن الصلاة لا تفوّت عليهم هذه المبادرة.
وقد علم النبىّ بما كان من المسلمين، فلم ينكر على أىّ من الفريقين رأيه.
إذ كان كل منهم إنما يتحرى الخير، ويطلب رضا اللّه ورسوله.. إن أحدا منهم لم يمل مع هوى، ولم ينظر إلى ذات نفسه في هذا الأمر.. وإذ كان ذلك كذلك لم يكن المقصد إلا طلب الخير، وتحرّى الوجه الذي يلوح منه.
وفي طلب الخير، وتحرّى وجهه، يتساوى الذين يبلغونه، والذين لا يصلون إليه.. فليست العبرة بالأمر في ذاته، وإنما العبرة بالنيّة القائمة عليه، والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: {إنما الأعمال بالنيات.. وإنما لكل امرئ ما نوى}.
ولهذا لم يكشف النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عن وجه الصواب في هذا الأمر الذي اختلف فيه أصحابه.. إذ لا شك أن فريقا أصاب، وفريقا أخطأ.. فالأمر إما صواب وإما خطأ، ولا يحتمل الوجهين معا.
ولكنّ المعتبر هنا ليس الأمر في ذاته، إذ هو شيء عارض، وإنما المعتبر هو النيّة التي تقوم وراء هذا الأمر.. لأن النيّة شيء ذاتى، والذاتي مقدم على العرضي.
وقد حاصر النبي والمسلمون اليهود في حصونهم مدة، حتى إذا اشتدّ عليهم الحصار، نزلوا على حكم النبىّ.. فأمر يقتل كل من بلغ الحلم من الذكور، وسبى الأطفال، والنساء، بعد أن استولى على ما كان مع القوم من سلاح.
وهكذا ذهب هذا الداء الذي كان يعيش في كيان المدينة، ويموج بالفتن فيها.
وهكذا نفت المدينة خبثها.. ولبست اسما جديدا لها هو {طيبة}.
إذ قد طابت الحياة للمسلمين فيها بعد ذهاب هذا الخبث عنها.
قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} هو إخبار بما كان اللّه من نعمة على المسلمين بعد أن أجلوا اليهود عن المدينة.
فقد ورث المسلمون ما كان للقوم من أرض، وديار وأموال.. وهذا فضل من فضل اللّه على المؤمنين، يجب أن يذكروه، ويشكروا للّه فضله وإحسانه.
وفي قوله تعالى: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها}.
إشارة إلى ما سوف يورّث اللّه سبحانه وتعالى المسلمين بعد هذا، من أرض لم يطئوها من قبل.. وهى تلك الأرض التي وراء حدود الجزيرة العربية، مما ستمتد إليه فتوح المسلمين، وتطلع عليه شمس الإسلام.. في مشارق الأرض ومغاربها.. وفي الحديث إلى المسلمين بالأرض التي سيرثونها، مع أن المخاطبين لم يرثوها بعد، وإنما ورثها المسلمون من بعدهم- في هذا إشارة إلى أن المسلمين كيان واحد، وأن ما يرثه المسلمون في أي زمان ومكان، هو ميراث المسلمين جميعا.. لأن هذا الميراث ليس في حقيقته لذات أنفسهم، وإنما هو لدين اللّه الذي يجاهدون في سبيله.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} تطمين لقلوب المؤمنين على مستقبل الإسلام، الذي وعدهم اللّه بنصره وإعزازه، والتمكين له في الأرض.
فإن هذا الوعد من اللّه القوى العزيز، الذي بقوته وعزته يجعل من هؤلاء القلّة من المسلمين كثرة، ومن ضعفهم قوة تنهار أمامها قوى أعظم دولتين كانتا تسيطران على العالم في هذا الوقت، وهما دولتا الفرس والروم.. هذا، وفي الآية الكريمة، إشارة إلى ما أراد اللّه سبحانه وتعالى باليهود من إذلال وامتهان، فقد عرضهم سبحانه وتعالى في معرض الاستباحة والاستخفاف بدمائهم وأموالهم وإغراء المسلمين بهم.. ففى قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} استباحة لدمائهم وإراقتها بغير حساب.. وفي قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} دعوة للمسلمين إلى تمكين أيديهم من هذا الذي كان في يد القوم، فالمسلمون أحق به منهم، وأولى.


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)}.
التفسير:
(المرأة والرجل.. في بيت النبوة) يكثر المفسرون في إيراد أسباب النزول لهذه الآيات.. ومن هذه الأسباب أن أزواج النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه، قد وجدن في المعيشة التي كن يعشنها مع النبي، ضيقا في العيشة، لاقين فيه كثيرا من الضيق، ووددن لو أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أخرجهن من هذا العيش الخشن إلى حياة يجدن فيها بعض ما يجد غيرهن من النساء، من لين، ورقه.. وتمضى الرواية، فتقول إن نساء النبي جئن إليه مجتمعات بهذا الطلب، وأنه صلى اللّه عليه وسلم وجد شيئا من الضيق بهن، فنزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ.. الآية}.
وهذا الخبر وما يدور في مداره، هو في نظرنا غير معقول على صورته تلك، وإن كان قد ورد في كتب السنة الصحاح، مثل صحيح مسلم.
وذلك لأمور:
أولا: أن نساء النبىّ كنّ في هذا المستوي الرفيع، من شفافية الروح، وصفاء النفس، يملأ قلوبهن الإيمان باللّه.. وكيف لا يكون هذا شأنهن، وهن يرين وحي السماء ينزل في بيوتهن، ورسول للّه يملأ بأنفاسه الطاهرة الطيبة حجراتهن؟ وأين إذن ما يكون للرسول الكريم من نفحات وبركات إذا لم تنل أقرب الناس إليه، وأكثرهن مخالطة له، وحياة معه؟
ثانيا: كان رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- الأسوة الحسنة، لنسائه وللمؤمنين جميعا، في تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها في مطعمه، وملبسه، ومنامه.. فقد كان- صلوات اللّه وسلامه عليه- ينام على حشية من ليف، ربّما ثناها في الليلة الباردة ليتغطى ببعضها، كما كان له وسادة من ليف أيضا.. وكانت تمرّ به الليالى ذوات العدد، لا يوقد في بيته نار، كما تحدث بذلك السيدة عائشة.. ومعنى هذا أن لا خبز يخبز، ولا لحم ينضج.. وكان- صلوات اللّه وسلامه عليه- يخيط ثوبه، ويخصف نعله، فكيف- مع هذا- تجد واحدة من نسائه لسانا تحدّث به الرسول هذا الحديث عن العيش اللّين، والحياة الرافهة؟ ثم كيف يتحول هذا الحديث إلى أن يكون بهذا الصوت الجماعى الجهير؟
ثالثا: في حياة أزواج النبىّ مواقف تشهد لهن بهذه العظمة الإنسانية، التي كانت من بعض نفحات الرسول، وبركاته عليهن.. فكنّ بهذا جديرات بأن يكنّ زوجات لواحد الإنسانية وعظيمها، وكن على ما أشار إليهن سبحانه وتعالى بقوله: {وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ}.
فهذه أم حبيبة- رضى اللّه عنها- إحدى أزواج النبىّ، وبنت أبى سفيان- ينزل عليها أبوها قبل أن يدخل في الإسلام، وقد جاء إلى المدينة، ممثلا لقريش، ليلقى النبىّ في شئون بين المسلمين، وبين مشركى قريش.
نقول: نزل أبو سفيان عند ابنته أم حبيبة- رضى اللّه عنها- فلما أراد أن يجلس على حشية كانت هناك، ردّته أم حبيبة بغير شعور، وبلا رفق.. وعجب أبوها لهذا أشدّ العجب، واستحال كيانه كلّه علامة إنكار تطلب تفسيرا لهذا الأمر الغريب.. وتلقاه أمّ حبيبة بما يكاد يذهب بعقله: أنت مشرك نجس فلا تمس فراش رسول اللّه!! ولم يصدّق أبو سفيان ما سمعت أذنه، كما لم يصدق ما رأت عينه، وخيّل إليه أنه في حلم مزعج.. ولكن الواقع كان أقوى من أن تعيش في ظله الأحلام طويلا، فصحا الرجل صحوة مذعورة، وانطلق مسرعا ليهرب من هذا الموقف الذي كاد يختنق فيه.
وأم حبيبة هذه على شظف العيش الذي كانت تنعم في ظله بهناءة الروح، وروح النفس لم تر أن تنعم وحدها بهذه النعمة العظيمة التي تجدها في رحاب رسول اللّه، وألا يكون لأختها رملة بنت أبى سفيان حظ من هذا الخير الوفير، فتعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أن يتزوج أختها، فتقول: يا رسول اللّه.. هل لك في أختى بنت أبى سفيان؟ فيقول الرسول الكريم: «أفعل ماذا؟» فتقول: تتزوجها! فيقول- صلوات اللّه وسلامه عليه: «أو تحبين؟» فتقول: لست بمخلية وأحبّ من يشاركنى في الخير أختى! فيجيبها الرسول الكريم: «فإنها لا تحلّ لى» والمثل في أم المؤمنين حبيبة بنت أبى سفيان يغنينا عن كثير من الأمثلة التي نجدها في سيرة أزواج النبي- رضى اللّه عنهن- وما بلغ بهن زهدهن في متاع الحياة الدنيا، وترفعهن عن زخارفها وزينتها، من مكانة لم تكن إلا للمصطفيات من عباد اللّه- إذا كانت أم حبيبة بنت سيد قريش، وصاحب غيرها ونفيرها.
فليس بصحّ بعد هذا أن يسمع لقول يقال بأن أزواج النبي- صلى اللّه عليه وسلم- شكون يوما من ضيق العيش في جناب الرسول، وأن واحدة منهن مدت عينها إلى شيء وراء هذا العالم الروحي الذي كانت تعيش فيه، وتجد منه ما يملأ عليها وجودها سعادة ورضا.
وعلى هذا نستطيع أن ننظر في الآيات السابقة، من غير أن نقف على أسباب النزول التي قيل إنها لا بست نزولها، وحسبنا أن نأخذ بعض ما يعطيه منطوق هذه الآيات من دلالات، وما لهذه الدلالات من علاقة بالآيات السابقة أو اللاحقة لها.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} هو خطاب للنبىّ، وأمر له من ربه، أن يلقى نساءه بهذا القول الذي أمره ربه أن يلقاهن به، وأن يعرف رأيهن فيه، وموقفهن منه: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}.
إنه تخيير لهن من الرسول- بأمر ربه- بين أن يطلق الرسول سراحهن ويمتعهن متعة المطلقات، لتأخذ كل واحدة منهن حظها الذي تقدر عليه من متاع الحياة الدنيا خارج بيت النبوة، وبين أن يرضين الحياة مع رسول اللّه، على تلك الحال التي هن فيها.
فى بيت النبي!
وفي هذا التخيير دلالة واضحة، وإشارة صريحة إلى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة.. فليس للرجل أن يحمل المرأة على الحياة معه، وهى متكرهة لهذه الحياة، غير راغبة فيها، حتى ولو كانت تلك الحياة على أعلى مستوى من الكمال والإحسان.. فأيّا ما كان واقع الأمر في الحياة الزوجية، فإن ذلك لا يحرم المرأة حقها في اختيار الحياة التي ترضاها لنفسها، وتجد فيها ما تستريح له، ولو كان على غير جادة الطريق.. إنها كائن رشيد يحمل أمانة التكليف، ويتلقى جزاء ما يعمل من خير أو شر.. إن المرأة كالرجل في حمل التكليف، وفي الثواب والعقاب، وإن في إمساكها في بيت الزوجية على غير ما تريد، حجرا على إرادتها، واعتداء على إنسانيتها.
ولو أنه كان من تدبير الشريعة الإسلامية، أن تجعل للرجل سلطانا مطلقا على المرأة يمسكها به في بيت الزوجية، من غير رضاها- لكان أولى الناس جميعا بذلك، هو رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه ورحمته وبركاته عليه- فإنه لن تجد المرأة أبدا ظلا كهذا الظل الطيب الكريم، تأوى إليه، وتغذّى فيه إنسانيتها بأنوار السماء، وتعطر منه روحها بأنفاس النبوة وكمالاتها.
إن في إلزام المرأة وقهرها أن تحيا في هذا الوضع الكريم في بيت النبوة، هو خير محض لها، وإحسان عظيم إليها، وربح خالص لا شك فيه لها.. ومع هذا، فإن اللّه سبحانه أمر رسوله الكريم، بتخيير نسائه، وإعطائهن هذا الحق الذي لهن، والذي ربما كان يمنعهن الدين ومقام الرسول في نفوسهن، من النظر إليه، أو التفكير فيه! فجاء هذا العرض وذلك التخيير، أمرا من السماء، يرفع عنهن الحرج، ويفسح لهن الطريق إلى ما يردن.
وطبيعى أن يكون هذا موقف الإسلام من المرأة، ومن تحرير مشاعرها من كل خوف، وإخلاء وجدانها من كل قيد، في الصلة التي تقوم بينها وبين الرجل.
وهذا التحرير لإرادة المرأة، وإعطائها الحق في الإمساك بعقد الحياة الزوجية أو نقضها. فوق أنه اعتراف بحق الجانب الإنسانى في المرأة، وحراسة من كل عارض يعرض له- في الوقت نفسه- هو اعتراف ضمنى بقداسة الرابطة الزوجية، ورفعها إلى مستوى العقيدة الدينية.. سواء بسواء.
فالعلاقة التي تقيمها الشريعة الإسلامية بين الزوجين علاقة مقدّسة، لها حلالها، ولها خطرها، في بناء المجتمع، وفي تماسك وحداته. إنها علاقة نفوس، واتصال أرواح، وارتباط مشاعر، وتلاقى قلوب.. ولن يكون ذلك على كماله وتمامه، أو على شيء من الكمال والتمام، إذا لا بسه شيء من القهر أو الإكراه، أو الحرج.
والشريعة الإسلامية، التي تأبى أن يستجيب لها أحد بغير رضاه، أو يدخل إليها داخل عن طريق القهر والقسر. حتى ليقول اللّه سبحانه، لنبيه الكريم: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} [256 البقرة] ويقول له: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [99: يونس].. ويقول له: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [22: الغاشية] ويقول له: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف]- هذه الشريعة التي تقف هذا الموقف من دعوتها، ليس غريبا عليها أن تقف هذا الموقف من المرأة، ومن إمساكها على الحياة الزوجية.
ولا ندرى كيف أخذت المرأة هذا الموضع الذليل المهين في الأسرة الإسلامية، وفي علاقتها بالرجل، حتى لقد كادت- في وقت ما- تتحول إلى متاع من أمتعة الرجل.. فيمسكها كارهة له، بل ويمسكها وهو كاره لها.. كيدا، وإعناتا!! ولا ندرى من أين جاءت تلك القوانين المعنونة بعنوان الدين، تحكم على المرأة بالطاعة، وتدخلها بالقوة القاهرة هذا البيت البدعىّ المعروف ببيت الطاعة؟ وأية طاعة تلك التي تقوم على سلطان القانون، وضربات السياط؟ وهل لسلطان القانون- أي قانون- أن يقيم في النفوس ولاء، وفي القلوب حبا ومودة ورحمة؟ والحياة الزوجية، في شريعة الإسلام، إنما ملاكها الرحمة والمودة، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [21: الروم] لقد فهم الطلاق في الإسلام، بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة- على أنه حق مطلق للزوج، وهو فهم خطأ.. فللطلاق دواع وأسباب إذا لم تجتمع له، كان عملا عدوانيا، يؤثّمه الإسلام، ويبغض مرتكبه.. إنه رخصة لا تباح إلا عند الضرورة، ومحظور لا يحل إلا عند الحرج، وفي هذا يقول الرسول الكريم: «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق».
فهو حلال بغيض، لا يستعمل إلا بقدر ما يدفع الضرر، ويرفع الحرج.. تماما كحلّ الميتة ولحم الخنزير، عند الاضطرار.
وعن هذا الفهم الخاطئ للطلاق، قام مفهوم آخر، هو خطأ أيضا، لأن ما بنى على الخطأ خطأ.
وهذا المفهوم، هو أنه ليس للمرأة في ربط الحياة الزوجية أو حلّها أي شى ء! إن الأمر كله في يد الرجل.. إن شاء أبقى على الحياة الزوجية، وإن شاء قطعها.
ولو نظر ناظر إلى الشريعة الإسلامية من خلال هذا المفهوم الخاطئ للطلاق، وما تفرع منه، لساء ظنه بها، ولاتهم الإسلام في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه.
والحق أن الإسلام قطع على الناس وساوس الظنون به، وأخرس ألسنة الذين يتهمونه في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه، في أي موقع من مواقع الحياة، سواء بين المرأة والرجل، أو بين الناس والناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين.
أتريد لهذا شاهدا، فيما بين المرأة والرجل؟.
استمع إلى قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً} [128- 130: النساء].
فالقضية في هذه الآيات الثلاث، هى قضية المرأة، والشأن الأول فيها هو شأن المرأة.
إن المرأة هنا، قلقة في بيت الزوجية، لا تجد سكينة النفس، ولا أنس الروح.. سواء أكان ذلك الشعور ناجما عن سوء تقديرها وتفكيرها، أو واردا عليها من سوء تصرف الرجل معها وسوء عشرته.. إن الأمر سواء.
فهى- على أي حال- غير مستريحة إلى زوجها، وغير مطمئنة إلى الحياة معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خافَتْ مِنْ بَعْلِها}.
فالخوف هنا، هو الشعور بالقلق، وعدم الاستقرار والاطمئنان.. وفي قوله تعالى: {نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً} ما يكشف عن وارد هذا الخوف، الذي تجده المرأة، وهو إما أن يكون عن نشوز منها هى، ونفور من الحياة الزوجية، وإما أن يكون من إعراض الرجل عنها، ونفوره منها.
هذه هى صورة تلك الحياة الزوجية التي تشير إليها الآيات، وهذا هو إحساس المرأة بها، وشعورها نحوها.. أما شعور الرجل وإحساسه هنا، فلا معتبر لهما، لأن في يده ما يحسم به أمره، ويأخذ به الوضع الذي يستريح إليه، وهو الطلاق!.
والسؤال هنا: ماذا تملك المرأة إزاء هذا الشعور الذي تعيش به في بيت الزوجية؟ وهل أعطاها الإسلام من الحق ما تملك به التصرف بمقتضى الشعور؟.
ونعم، نعم.. فإن الآيات صريحة في أن تأخذ المرأة الطريق الذي تختاره، وأن لها أن تفارق زوجها، إن لم يكن برضاه، فلولىّ الأمر أن يطلقها عليه.. ففى قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} فهذا التفرق هو عن رغبة المرأة التي عرضت الآيات مشاعرها، وما تجد من ضيق، وقلق، وخوف..!
وليس الذي حملته الآيات من علاج للأمر قبل حسمه بين الزوجين بالطلاق، وذلك بما يجرى بينهما من مناصحة ومصالحة، واستدعاء لمشاعر الخير فيهما- ليس هذا إلا حرصا على هذه الرابطة المقدسة، وإبقاء على مشاعر المودة والرحمة التي من شأنها أن تكون على أتم صورة وأعدلها بين الزوجين.
وقد جاءت السنة المطهرة شارحة عمليا لما جاء به القرآن الكريم، في هذا الأمر.. فأعطى النبي الكريم المرأة حقها في الطلاق من زوجها، إذا هى لم تردّ الحياة معه.
روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت يا رسول اللّه: لا أجد في ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته، فسألها الرسول الكريم، هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها.. إذا هو طلقها؟
فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها.
وبهذا التدبير الحكيم تتعادل كفتا الميزان للحياة الزوجية، وبهذا التعادل، يتم التوافق، والتواد، ويجد كل من الزوجين معنى السكن الذي أشار إليه قوله تعالى {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [21: الروم].
هذا، والمناسبة الداعية إلى هذا الموقف الذي وقفه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من أزواجه، وخيّرهنّ فيه بين الحياة معه، إيثارا للّه ورسوله، وبين الحياة المطلقة من رباط الزوجية- المناسبة الداعية إلى هذا هو ما فتح اللّه على النبي والمسلمين في غزوة الخندق، بما ساق إليهم من غنائم اليهود، من بنى قريظة وبنى النضير، بعد أن ردّ اللّه عنهم الأحزاب خائبين خاسرين.
وهنا أمام هذه الغنائم الكثيرة، تتحرك شهوات النفوس، وتتدافع الرغبات، وتتطلع العيون.. إنه المال الكثير، من جهة، والحرمان الشديد، من جهة أخرى.. وإنها الفتنة، تطل برأسها على الناس، وتلقاهم على جوع بالغ، وحرمان طويل.. والناس هم الناس.. أيّا كانوا.. فلن تموت فيهم توازع الحياة، وحب البقاء، ولن يختفى من كيانهم ما ركب في فطرتهم من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث!!
وإذا كان الإسلام بتعاليمه، وبهدى رسوله، قد استطاع أن يقهر هذه الشهوات في النفوس، ويخفت صوت الأهواء الداعية إليها، فإنه لن يستطيع- وما كان من همّه أن يفعل- اقتلاع هذه الشهوات من جذورها، لأنه إنما يعمل بتعاليمه، وبهدى رسوله، في حقل الإنسانية، وفي محيط الإنسان باعتباره كائنا بشريّا، من خصائصه أن يرغب، ويشتهى.
لهذا، كان من تدبير الدعوة الإسلامية أن لقيت المسلمين على أول الطريق، وهم في مواجهة هذه الفتنة التي وردت عليهم من أموال اليهود، وما ورّثهم اللّه إياه من ديارهم وأرضهم، وذراريهم ونسائهم.. وكان من تدبير الإسلام الحكيم أيضا، أن يكون النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أول من يلقى هذه الدعوة، وأول من يأخذ نفسه بها، في نفسه وفي أهله.. فكان أن تلقّى أمر ربه بتخيير نسائه في الحياة معه على ما ألفن من شظف العيش في بيته، وألا ينتظرن شيئا من تغيير هذه الحال، مهما كثرت الأموال التي تساق إلى المسلمين من غنائم الحرب، سواء ما كان منهما حالا، أو مستقبلا! فإن هن رضين هذا، فذلك مما يجزيهن اللّه عليه الثواب العظيم، والأجر الكبير.. وإلّا فلهن أن يطلبن سعة العيش، ومتعة الحياة الدنيا في غير بيت النبىّ.. أما بيت النبىّ فلا تجتمع فيه النبوّة، ومتاع الحياة الدنيا..!
وهكذا تلقّى المسلمون جميعا هذا الدرس الحكيم، الذي أشرف عليهم من أعلى قمة في الحياة، فلم يبق بيت من بيوتهم إلا استنار بشعاعاته، واستدفأ بضوئه! فخنست في النفوس تطلعاتها، وانجحرت في الصدور وساوسها، ورأى المسلمون- رجالا ونساء- أنهم مطالبون- وإن لم يطلب إليهم- بما أخذ به النبىّ نفسه وأهله- إذ كان النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أسوتهم ومثلهم الأعلى الذي يتمثلونه.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى، قبل هذه الآيات، وكأنه مقدمة لها: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}!.
والأسوة هنا إن لم يفرضها الدين، أوجبها العرف، وقضى به واقع الحياة في الناس.. فالنبىّ، بمكانه الديني، هو رأس المسلمين، وسيّدهم، وإمامهم الذي ينفرد بمقام السيادة والإمامة، وولاية الأمر فيهم.
والنبىّ بمكانه الاجتماعى من المسلمين، هو قائدهم، وملكهم، والمتفرّد بالسلطان عليهم.
ومن هنا لم يكن لأىّ من المسلمين، بل ومن المنافقين ومن في قلوبهم مرض أن يجد سبيلا إلى غير الأسوة بالنبيّ في هذا المال الحاضر بين أيديهم، أو فيما سيقع لأيديهم منه في مستقبل الأيام.
فالمؤمنون حقا يجدون في محمد النبىّ الأسوة في الحياة الطيبة الكريمة العزوف عن زخرف الحياة ومتاعها.
والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، يرون في محمد، القائد، والملك والسلطان، وقد نقض يديه من هذه الغنائم، فلم يمدّ يده إلى شيء منها هو أو أهل بيته، فلا يجرؤ أحد منهم أن يمدّ بصره إلى أكثر مما امتدّ إليه بصر الرسول إزاء هذا المال.
موقف لم يكن منه بدّ، وتدبير لم يكن عنه معدّى إلى سواه، إذا كان هذا الدين الذي جاء به محمد دينا حقا، وكان من أمر هذا الدين أن يقيم مجتمعا إنسانيا على تعاليمه، ويمسك به على شريعته.
وتعالت حكمة اللّه، وجلّ جلاله، وتبارك شأنه..!
يقع هذا التدبير في بيئة كان الانتهاب، والسلب والخطف شريعة سائدة في كل أحيائها.. ثم يعرض على الأنظار فيها هذا المال الكثير الذي اكتنزه اليهود خلال قرون طويلة، وجمعوه من كل وجه- فلا تطمح إليه نفس، ولا تمتد إليه عين أو يد!! إنه انقلاب مزلزل في البيئة العربية.. وإنه لأكثر من انقلاب أن يبدأ القائد بنفسه، ويأخذها بهذا الحكم، ثم يدع للمسلمين أن يأخذوا حظوظهم من هذا المال، وأن يقتسموه بينهم.. وقد كان المتوقع أن يدور الأمر على عكس هذا، فيستأثر القائد بكل نفيس غال من هذا المغنم، جريا على ما اعتاد العرب في غاراتهم على أعدائهم.. فلقائد الجماعة المنتصرة الغانمة أن يصطفى ما يشاء، من الغنيمة قبل قسمتها، وأن يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ثم يذهب بالربع مما بقي، ويدع ثلاثة الأرباع تقسم بين المحاربين.. وفي هذا يقول شاعرهم مخاطبا قائد الحرب:
لك المرباع فينا والصفايا *** وحكمك والنشيطة والفضول
وإذا لم تكن كتب السيرة قد التفتت كثيرا إلى هذا الحدث، ولم ترصد آثاره في البيئة العربية كلها- فإن الذي لا شك فيه أنه أثار هزة عنيفة في المجتمع العربي كله، مسلمين، وغير مسلمين.. والذي لا نشك فيه كذلك أنه أدار تفكير الناس جميعا إلى الإسلام، وإلى الغاية التي يقصد إليها، وأن كثيرا ممن لم يدخلوا في الإسلام، والذين كانوا على غيرة وحسد للنبىّ أن يعلو عليهم بسلطان، وأن يستطيل عليهم بدعوته وما يجمع لها من أنصار- كثير من هؤلاء قد استخزوا أمام أنفسهم، وأطفئوا بأيديهم نيران الحقد والحسد على الدين الجديد، وعلى صاحب الدعوة به فيهم.. وإن الذي يمدّ بصره إلى ما بعد هذا الحدث ليرى أن الطريق مفتوح إلى فتح مكة وإلى دخول الناس في دين اللّه أفواجا، فقد كان لهذا الحدث أثره العظيم في كسر حدّة العداوة والعناد للنبىّ ولدعوته، في نفوس المشركين من قريش! إذ أن أكثر ما كان يحجز المشركين عن الاستجابة للنبىّ، هو نفورهم وإباؤهم من أن يقعوا تحت يد سلطان، يعلو عليهم، ويستبدّ بوجودهم، فلما جاءت الأحداث تخبر بأن محمدا ليس ملكا ولا أميرا، ولا طالب ملك أو إمارة- عرف المنكرون أن دعوى النبوة التي يدّعيها محمد، هى دعوة حق، لا شك فيه.
قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
تجىء هذه الآية، بعد تخيير النبىّ أزواجه.. وقد اخترن اللّه ورسوله، ورضين الحياة في ظلال النبوة.. فهن الآن- وبعد هذا الاختبار العملي لما في قلوبهن من إيمان- أهل لاحتمال والتبعات الملقاة على من يخالط النبي ويعاشره.. وإن فهن على غير ما عليه النساء.. إنهن نساء النبي، وعليهن من الواجبات فوق ما على النساء لأزواجهن.. وأنه إذا كان على المرأة أن ترعى حقوق الزوجية، وأن تحفظ حرماتها، فإن على نساء النبي أن يرعين هذه الحقوق رعاية مطلقة وأن يحفظن حرماتها حفظا مبرأ من كل شائبة، بعيدا عن كل شبهة.. وألا فليسمعن كلمة اللّه إليهن: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
والفاحشة: الأمر المنكر.
والمبينة: الكاشفة عن هذا المنكر.
والمراد بالفاحشة المبينة هنا، ما يخلّ بالمروءة والشرف، قولا وفعلا.
وفي الآية إشارة إلى مقام نساء النبي، وأنهن مؤاخذات بما يعفى عنه من غيرهن.. لأنهن في موقع الهداية، وفي مطلع النور، فلا عذر لهن فيما يقوم لغيرهن من عذر.. ومن هنا كانت صغائرهن كبائر.. ومن هنا قيل: سيئات المقربين حسنات الأبرار.
ومضاعفة العذاب ضعفين، ليس ظلما في هذا الوضع، بل هو الجزاء المناسب للذنب، المقدور بقدره.. وإنما هو مضاعف بالنسبة لغيرهن، ممن ليس لهن هذا الوضع الذي هن فيه.. فعذاب غيرهن مراعى فيه التخفيف، فهو دون ما يستحقه الذنب، إذ كان مع غيرهن أكثر من عذر.. من جهل، أو غفلة، ونحو هذا، أما هن فلا عذر لهن.
وقد يبدو أن هذا التحذير لنساء النبي، يمكن أن يلزم منه، وقوع إتيان الفاحشة المبينة من بعضهن، كما يرى ذلك بعض المفسرين.. وهذا غير مراد من الآية الكريمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى هذا المقام الكريم الذي لهن عند اللّه، وعند المؤمنين.. وأن لهن مكانا خاصا، وحسابا خاصا.
وذلك مثل قوله تعالى للنبى الكريم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [65: الزمر]. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
(116: الأنعام) وهذا ما لا يكون من النبي أبدا، كذلك لا يكون من زوجان أن يأتين بفاحشة أبدا، وهنّ في حمى النبوّة، وفي حراسة السماء التي تظل بيت النبىّ.


{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً}.
هو مقابل قوله تعالى في الآية السابقة: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ}.
فهذا مقام، وذاك مقام.. هذا في مقام الإحسان، وذاك في مقام الإساءة.
وكما أن زلّة أهل الإحسان كبيرة ومؤاخذتهم عليها أكبر، فإن إحسانهم عظيم وجزاءهم عليه أعظم.
والقنوت: الولاء والخشوع.
وفي عطف الرسول على اللّه سبحانه وتعالى، تكريم عظيم للرسول، وإشارة إلى مقامه العظيم عند ربه.
وقوله تعالى: {وَتَعْمَلْ صالِحاً} معطوف على قوله تعالى: {يَقْنُتْ}.
وفي هذا إشارة إلى أن القنوت- وهو الولاء والخشوع- من عمل القلب.. وأنه لكى يكون لهذا القنوت أثر، ينبغى أن يخرج إلى مجال العمل، فالعمل هو المحكّ الذي يظهر عليه ما في القلب من مشاعر ومعتقدات.
وإيتاء الأجر مرتين، هو مضاعفة الثواب لأهل الإحسان، فضلا من فضل اللّه، وإحسانا من إحسانه إلى أهل ودّه.. {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [261: البقرة] قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً} تكشف الآية هنا عن السبب الذي من أجله كان حساب نساء النبي في مقام الإحسان أو الإساءة على هذا الوجه الذي أشارت إليه الآيات السابقة، وذلك أنهن لسن مثل غيرهن من النساء.. إنهن نساء النبي.. قد فرض عليهن أن يزهدن في الحياة الدنيا ومتاعها، إذا شئن أن يحسبن في نساء النبي.
ثم جعل حسابهن في مقام الإحسان أو الإساءة، على غير ما يقوم عليه حساب النساء جميعا.
وفي قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ} استدعاء لهن بتلك الصفة الرفيعة التي حلّاهن اللّه سبحانه وتعالى بها في بيت النبوة، وتذكير لهن بتلك النعمة العظيمة التي لبسنها بإضافتهن إلى النبي.
وقوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ}.
نفى الشّبه عن نساء النبي هنا هو في المقام الذي حللنه في المسلمين.. فهن في هذا المقام أمهات المؤمنين، لهن ما للأمهات عند الأبناء من توقير وتقدير، فهن بهذا الوضع لسن كمطلق النساء، وعمومهن، بل إن لهن خصوصية لا يشاركهن فيها غيرهن من النساء- وقوله تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} الخضوع بالقول مضغ الكلام، ولينه، تدلّلا.. وهذا من المرأة أشبه يكشف العورة، وإبداء الزينة، إذ كان الصوت من بعض مفاتنها.. وصوت المرأة إذا كان على طبيعته لا شيء فيه، ولكن التصنع هو الذي يجعل من صوتها داعيا يدعو إلى الريبة، وإثارة شهوة الرجال.. ولهذا تغزل الشعراء بمثل هذا الصوت الذي يجىء من المرأة عن دلال وصنعة.
ويعدّ المتنبي مضغ الكلام ولينه من بدع الحضارة الذي لا يعجبه فيقول:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها *** مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وقوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً} أي تحدثن حديثا، واضحا صريحا، بعيدا عن التكليف والصنعة، مجانبا، الغمز والإشارة.
فهذا أدب يباعد بين نساء النبي، وبين أن يطوف بهن طائف من الريب، وهو أدب ينبغى أن يكون لنساء المؤمنين جميعا.. فلهن في نساء النبي أسوة حسنة.
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قرن في بيوتكن: أي أقمن في بيوتكن، والزمن الحياة فيها.. وهو من القرار والسكن، وأصله: اقررن في بيوتكن.
والتبرج: التهتك، وإظهار الزينة.
والجاهلية الأولى: أي الجاهلية العريقة في الجهل.
والآية، أمر لنساء النبي، أن يلزمن بيوتهن، وألا يغشين المجالس والطرقات.. إذ أن بيوتهن، هى مساجدهن التي رضين أن يعشن فيها بعيدات عن صخب الدنيا، وعن زخرفها ومتاعها.
وهذا القرار في البيوت، لنساء النبي- أمر طبيعى، بعد أن اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة.. فما لهن بعد هذا مطلب يطلبنه خارج بيوتهن، من لهو أو تجارة أو نحوها.. ولهذا كانت الدعوة إليهن بالقرار في البيوت مقترنة بالدعوة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وإطاعة اللّه ورسوله.. فهذا هو دأبهن في الحياة.. الاتجاه إلى اللّه، والعمل لما يرضى اللّه، ورسول اللّه.
وقوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
أي إن هذا لذى يدعى إليه نساء النبي من أدب السماء، هو لما يريد اللّه سبحانه وتعالى لهن من طهر، يتناسب مع مقامهن، ويتلاقى مع انتسابهن إلى النبي.
و{أَهْلَ الْبَيْتِ} منادى، وفي النداء تذكير لنساء النبي بهذا النسب الكريم الذي ينتسبن إليه، وأنهن أهل بيت النبي.
وقوله تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} توكيد لهذا الطهر الذي يريد اللّه سبحانه وتعالى أن يضفيه على أهل بيت النبي.. فهو طهر خالص، لا تعلق به شائبة من دنس، أو رجس.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً}.
آيات اللّه، هى القرآن الكريم، والحكمة: هى السنة المطهرة.
والمراد بذكر آيات اللّه والحكمة، هو تذكرها، والعمل بها.. ففى ذكر آيات اللّه، وسنة الرسول، تذكير بما فيهما من أحكام وآداب.. وفي هذا التذكير حثّ على العمل، وتحرّ لما يرضى اللّه ورسوله، من قول أو فعل!.
وقوله تعالى: {بُيُوتِكُنَّ} إشارة إلى أن بيوت نساء النبي هى الآفاق التي تطلع منها آيات اللّه، وسنة الرسول.. إذ كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- على تلاوة دائمة لآيات اللّه آناء الليل أو النهار، في أي بيت من بيوت نسائه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً} دعوة إلى ما ينبغى أن يصحب الذاكر لآيات اللّه وسنة الرسول من يقظة الوجدان، واستجماع المشاعر والمدارك لاستقبال ما يتلى من آيات اللّه والحكمة، فذلك هو الذي يمنح القدرة على استشفاف بعض ما ضمّت عليه كلمات اللّه، وهدى رسوله، من حكمة وموعظة، وعلى التعرف على بعض ما حملت من علم ومعرفة.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً}.
ومن لطف اللّه وخبرته يقبس عباد اللّه المقربون، المكرمون.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
كانت الآيات السابقة دعوة لنساء النبي من اللّه سبحانه وتعالى، إلى ما يحفظ عليهن مقامهن الكريم عند اللّه، ومنزلتهن العالية في نفوس المسلمين.
وقد وعدهن اللّه سبحانه وتعالى على ذلك أجرا عظيما.
ورحمة اللّه الواسعة وفضله العظيم، يسعان الوجود كله، وينالان البرّ والفاجر من عباده.. فكيف بالمؤمنين الذين استجابوا اللّه، وأخلصوا دينهم وولاءهم له؟ إن لهم مزيدا من الرحمة، وأضعافا مضاعفة من الفضل والإحسان.
وفي الآية الكريمة تسوية بين الرجل والمرأة في مقام التكليف والجزاء.
وهذا ما يجعل للمرأة وجودها الكامل مع الرجل، إذا ارتبطا برباط الزوجية.
وإلا فإن أي حيف يدخل على وجودها- بحكم الشريعة- يحلها من الالتزام بأحكام هذه الشريعة وآدابها، إذ كانت- والأمر كذلك- غير- مالكة أمرها على الوجه الذي تحقق فيه ذاتيتها، وتحرر فيه إرادتها، وتمضى به مشيتها.. وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.. الآية}.
وقد ذكرت الآية هنا عشرة أوصاف للرجال والنساء، من حققها من أىّ من الرجال والنساء، استحق ما وعد اللّه به من المغفرة والأجر العظيم.
ويلقانا مع الآية الكريمة سؤالان:
أولهما: هل اجتماع هذه الأوصاف شرط في تلقّى الجزاء الذي وعد اللّه سبحانه وتعالى به، في هذه الآية، أم أنه يكفى أن يحقق المرء وصفا واحدا منها، فيكون أهلا لتلقى هذا الجزاء؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلم تعددت هذه الأوصاف إذا كان واحد منها مغنيا عن غيره؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن أي وصف من هذه الأوصاف إذا حققه المرء تحقيقا كاملا، كان في الوقت نفسه، محققا، جامعا للأوصاف الأخرى كلها.
فمثلا.. المسلم.. إذا حقق معنى الإسلام على تمامه وكماله، كان مؤمنا، وكان قانتا، وكان صادقا، وكان صابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا للّه كثيرا.. وهكذا.. المؤمن.. يكون مسلما، ويكون قانتا، وصادقا، وصابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا للّه كثيرا.
ومثل هذا كل وصف تحققه المرء من هذه الأوصاف على وجهه كاملا، فإنه تتحقق معه الأوصاف التسعة الأخرى.. لأن كماله إنما يقوم على هذه الأوصاف كلها.
هذا هو الأصل في كل وصف من تلك الأوصاف، إذا تم وكمل! وتمام أي وصف من تلك الأوصاف، وكماله، يكاد يكون أمرا غير ممكن إلا في أفراد قلة من عباد اللّه المصطفين المكرمين.. فقد يكون المرء مسلما، ومع هذا فلن يكون مؤمنا، أوقاتنا، أو صادقا.. إلى غير ذلك من الصفات الأخرى.. إذ الإسلام في أدنى درجاته، هو نطق باللسان بشهادة أن لا إله إلا اللّه.. ثم هو في أعلى درجاته جامع لتلك الأوصاف المذكورة كلها.. وهذا ما يشير إليه. قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً} [14: الحجرات] فالإسلام هنا قولة باللسان، لا أكثر ولا أقلّ.. وتلك القولة إذا وقف بها المرء عند هذا الحدّ، فلن يكون محققا الوصف الذي لها، ومن ثمّ لن يكون مسلما بالمعنى الذي ينتظم به في هذا الموكب الكريم، الذي يجمع المؤمنين، القانتين، الصادقين.
إلى آخر ما ينتظمه هذا الموكب.
وكذلك الإيمان.. هو في أدنى درجاته إقرار باللسان، وتصديق بالقلب ثم يرتفع هذا الإيمان درجات، ويعلو منازل، بما يصحبه من أعمال، كالصدق والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم.. إلى آخر تلك الأوصاف.
وقل مثل ذلك، في الصدق.. فقد يكون الصدق طبيعة، لا تستند إلى إيمان أو إسلام.. وكذلك الصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفرج.. فقد يصدق الإنسان، مروءة وترفعا.. وقد يصبر شجاعة وجلدا.. وقد يخشع تواضعا وتألّفا.. وقد يتصدق، سخاء وكرما.. وقد يصوم، رياضة للروح أو صحة للبدن.. وقد يحفظ فرجه تعففا واستعلاء.. قد يفعل كلّ هذا غير ناظر إلى اللّه، وغير مرتبط بشريعة، أو دين.. إنه يعمل لحساب نفسه.. فلا يقام لشىء من ذلك وزن عند اللّه، الذي لا يقبل عملا من عامل إلا إذا كان مقصودا به وجهه، وامتثال أمره.. ثم قد يذكر اللّه ذكرا كثيرا بلسانه، دون أن يتصل شيء من هذا الذكر بعقله أو قلبه، ودون أن يظهر لذلك أثر في قوله أو فعله.
وأوضح من هذا أن هذه الأوصاف يغذّى بعضها بعضا، ويمسك بعضها ببعض، فتبدو كأنها صفة واحدة، إذا نظر إليها باعتبار، وتبدو كأنها أوصاف إذا نظر إليها باعتبار آخر.. إنها أشبه بالجسد الحىّ.. إذا نظرت إليه مجملا وجدت ذلك الإنسان، المشخّص بذاته، وصفاته، وإذا نظرت إليه مفصلا، وجدته ذلك الإنسان المشخّص بذاته وصفاته.. وملاك الحياة في هذا الجسد هو القلب، كما أن ملاك تلك الأوصاف، هو الإيمان المستقر في هذا القلب! والسؤال الثاني، الذي يلقانا من هذه الآية الكريمة، هو: هل هذا الجمع لتلك الصفات منظور فيه إلى شيء أكثر من مجرد الجمع والحصر، دون مراعاة للترتيب، والتقديم والتأخير؟ وإذا كان هناك نظر إلى أكثر من مجرّد الجمع والحصر، فهل هذا الترتيب تصاعدى أم تنازلى؟
والجواب- واللّه أعلم- أن جمع هذه الأوصاف إنما هو من تدبير الحكيم العليم، وتعالت حكمة اللّه، وجلّ علمه عن أن يجىء تدبير من تدبير اللّه عن غير حكمة وعلم..!
فالإسلام- الذي جاء بدءا- هو أول درجات السّلّم، الذي يرقى فيه المرء إلى منازل الشريعة، وهو المدخل، الذي يدخل منه إلى دين اللّه.
والإيمان.. هو العروج بالإسلام إلى موطنه من القلب.
والقنوت.. هو استجابة القلب، وتقبله لهذا الإيمان الذي استقر فيه واطمأن به.
والصدق.. هو نبتة نبتت من بذرة الإيمان في القلب.
والصبر.. هو الغذاء الذي تغتذى منه تلك النبتة، حتى تقاوم الآفات التي تعرض لها، وحتى تعطى الثمر المرجوّ منها.
والخشوع- وهو الولاء للّه، والامتثال لأمره- هو أول ما تفتّح من زهر بيد الصبر.
هذا ويلاحظ أن هذه الأوصاف الستة إنما يكتسبها الإنسان من داخل نفسه، وفي حدود ذاته، فيما بين اللسان والقلب.. وهى في مجموعها، الرصيد المودع في قلب الإنسان من قوى الإيمان، ومنها ينفق فيما يعالج من شئون يستكمل بها تلك الأوصاف العشرة، ويوفّى منها مطلوب دينه وشريعته، منه.
فالصوم. والتصدق، وحفظ الفرج، وذكر اللّه.. هى أعمال تستلزم سلطان القلب، وخدمة الجوارح.
وبهذا نرى أن هذه الصفات بناء متكامل، يقوم بعضه على بعض، ويستند التّالى منه إلى السابق، بمعنى أنّ هذا الترتيب الذي جاءت عليه هو أمر لازم، لكى يتألف منها هذا النغم المتساوق الذي يقيم في كيان الإنسان إيمانا صحيحا، مثمرا.
وليس يعنى هذا، أن الإنسان يلقى هذه الصفات واحدة واحدة، وأنه كلّما حصل على صفة منها مدّ يده، أو فتح قلبه، إلى صفة أخرى.. كلا، وإنما الذي يعنيه هذا الجمع، وهذا الترتيب معا، هو أن المؤمن الجدير بهذا الوصف، المستحق للجزاء الموعود به المؤمنون من ربّهم، هو الذي يحقق هذه الصفات، فيكون مسلما، مؤمنا، قانتا.. إلى آخر الأوصاف العشرة.. فليست هذه الصفات، بمعزل عن بعضها، وإنما هى- كما قلنا- صفة واحدة مجملة، أو صفات عشر مفصلة، وهى في إجمالها وتفصيلها على سواء.
ولا ننظر كثيرا إلى التفاضل بين هذه الصفات، وإلى رجحان بعضها على بعض، إذ كانت كلها لازمة في بناء الإيمان السّوىّ في كيان المؤمن، تماما كبناء الجسد، كل عضو فيه- وإن قلّ شأنه- ضرورى لهذا الجسد، وفي فقده نقص وعيب.
ومع هذا، فلا بد لنا من نظرة إلى أول هذه الأوصاف، وهو الإسلام، وإلى آخرها وهو ذكر اللّه.
فالإسلام- كما قلنا- هو أول خطوة يدخل بها الإنسان في دين اللّه.
وذكر اللّه كثيرا، هو القمّة التي يرقى إليها هذا الذي دخل بالإسلام في دين اللّه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [45: العنكبوت] والمراد بذكر اللّه هو ملء القلب باستحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما للّه من صفات الكمال والجلال.. فبهذا الذكر يكون المؤمن دائما في أنس من ربّه، وقرب من جلاله وعظمته.. فلا يعمل إلا تحت هذا الشعور المراقب للّه، والخائف من عقابه، الطامع في رحمته.
وهكذا يستطيع الناظر في هذه الأوصاف أن يرى منها رؤى لا حصر لها، من آيات اللّه وشواهد الإعجاز في آيات اللّه وكلماته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5